منتدى الأسرة المسلمة في نيوزيلندا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الابتعاث ومخاطره

اذهب الى الأسفل

الابتعاث ومخاطره Empty الابتعاث ومخاطره

مُساهمة  مسافر السبت 02 أغسطس 2008, 7:48 pm

تأليف
محمد بن لطفي الصباغ

توزيع
رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
بالمملكة العربية السعودية

http://www.saaid.net/
بسم الله الرحمن الرحيم


الابتعاث ومخاطره (*)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمد عبده ورسوله .
أما بعد
فقد آثرت أن أبحث في موضوع الابتعاث لما أرى له من الأهمية العظمى والخطورة البالغة , ذلك أن مستقبل بلاد العالم الإسلامي – يتوقف إلى حد بعيد – على هذه البعثات التي سيكون من أفرادها رجال المستقبل , وحكام هاتيك البلاد , والقيادات الفكرية فيها .
وإنني أشكر للقائمين على هذا المؤتمر إدراجهم هذا الموضوع في جملة الموضوعات التي يعالجها المؤتمر , فذلك يدل على تنبه بخطر هذه الظاهرة التي لا ييتطيع الدعاة تجاهلها , لأن ما يبنيه الداعية في مجال , يهدمه المنحرفون من المبتعثين , لاسيما إن كانت في أيديهم السلطة والصلاحيات .

حوادث صارخة تستلفت النظر :
سمعت مرة من أحد رجالات اليمن أن آلافاً من الشباب من أبناء هذا البلد المسلم الشقيق المؤمن , أُرسلوا إلى الدول الشيوعية , ليدرسوا هناك جوانب مختلفة من المعرفة والاختصاصات .
وعلمتُ في الصيف المنصرم , خلال رحلتي إلى أوربا , أن الصومال ترسل الألوف من أبنائها أيضاً , إلى الدول الشيوعية والاشتراكية ليدرسوا هناك العلوم والمعارف .
وحدث أنني منذ عشر سنوات اجتمعت في الطائرة بشاب من بلد عربي يتوقد ذكاءً , قص عليَّ قصة دراسته , وخلاصتها : إنه كان الأول في امتحان الشهادة الثانوية , فاتصلت دولة من الدول الاشتراكية بوزارة التربية في ذلك البلد , وعرضت عليها الرغبة في أن تعطي هذا الطالب الذكي منحة دراسية في أي فرع نادر من فروع التخصص يرغب فيه , وذهب إلى المدرسة , ولكنه – كما بدا من حديثه – لم يتلق العلم فقط هناك وإنما تلقى الفكر الشيوعي الماركسي وأصبح من المؤمنين به والمدافعين عنه .

مكر مدبر :
ليست عداوة الكافرين للمسلمين خافية على ذي بصيرة , فهم لا يألوننا خبالا , وما أصدق وصف القرآن الكريم لهم , وذلك في قوله تبارك وتعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * » سورة آل عمران 118-120
فهم منذ أن جاء محمد صلى الله عليه وسلم , بهذه الرسالة وهم في مكر مستمر , وقد صفا لهم الجوُّ عندما ضعفنا وأصبحوا أقوياء , وخيم علينا الجهل وتقدموا هم , في مجال العلوم المادية , واستطاعوا احتلال بلادنا , فزين لهم ذلك المضيَّ في عدوانهم علينا , والإمعان في الإستيلاء على بلادنا وثرواتنا , ولكنهم رأوا أن جذور الإسلام عميقة في كيان المسلم مهما كان هذا الفرد المسلم مقصراً , ووجدوا أن روح الإسلام ومعانيه ومثله العليا , مستولية أشد الاستيلاء على مشاعر الناس وتصوراتهم .....
فواجهوا هذا الواقع بالمكر والتدبير , وخططوا لإزالة هذه العقبة من طريقهم ... وهي هذا الإسلام الذي لن يمكنهم من تحقيق أغراضهم وأطماعهم , مادام حياً في نفوس المسلمين وسلوكهم .
فمن ذلك كلمة غلادستون أحد زعماء بريطانيا : " مادام هذا القرآن في أيدي المسلمين فلن يقر للاستعمار قرار في ديار الإسلام " وأمثال هذه الكلمة كثير .
وفكروا وقدروا , ثم فكروا وقدروا , ودرسوا كيف يمكنهم أن يزحزحوا الإسلام عن مكانته في صدور المسلمين ؟ وكيف يقتلعون هاتيك الجذور بهدوء ويسر ونجاح ؟ وقادهم تفكيرهم وتقديرهم إلى وسائل عدة ... استخدموها بإتقان وإحكام .
وكان من ذلك الابتعاث , والتبشير ونشر التحلل والإفساد الخلقي والحملات العسكرية المسلحة , والتشكيك , والإلحاد , ومحاربة اللغة العربية , وبعث القوميات العنصرية , والنزعات الوطنية الضيقة لتحل محل الدين , وإفساد مناهج التعليم , ووسائل الإعلام .
ونحن في بحثنا هذا , نود أن ننظر في موضوع الابتعاث , لنبين كيف أنه كان من أفتك الأسلحة لزلزلة الإسلام من القلوب , ومحاولة اقتلاع جذوره العميقة من أعماق نفوس المسلمين , وبين أيدينا حقائق يجب أن لا تغيب عن أذهاننا , من أهمها أنهم أعداء ألداء , فلا يمكن أن يكون منهم حرص على أن نتعلم ونتقوى , وأنهم أنانيون ماديون فلا يمكن أن يكون عندهم مثل هذا الإيثار والتضحية من أجلنا , وقد حرصوا على سلوك كل سبيل لإخفاء هذه الأنانية وذاك المكر , ولكنهم – على الرغم من جهودهم في كتمان ذلك – غلبوا على أمرهم , لأنه أقوى من أن يستر , وظهر ذلك في مواقف عديدة . ولو أنهم دروا أن تعليمنا لا يقودنا إلى أفخاخهم , لما رضوا أن يعلمونا حرفاً واحداً , فمثل هذه البعثات دفع إليها , وكان سبباً من أسبابها :
- الرغبة في أن يكون تجانس وتطابق في التفكير بين المستعمرين وأبناء البلاد بين المسلمين .
وينشأ عن هذا بالضرورة ضعف سلطان الدين , وزحزحة مكانته عند كثير من هؤلاء المتعلمين من المبعوثين .
وستتضح هذه الأسباب عندما نبين نتائجه وآثاره .
وقد يقول قائل : هل هناك مانع من الارتحال لأخذ النافع من علوم القوم ؟
والجواب : لا ... بشروط .
والرحلة في طلب العلم مما درج عليه علماء سلفنا الأفاضل منذ الصدر الأول , امتثالاً لأمر الله عز وجل : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }التوبة122
قال حماد بن زيد : ( فهذا في كل من رحل في طلب العلم والفقه , ورجع به إلى من وراءه يعلمهم إياه )( )
وقال عبد الرزاق : (هم أصحاب الحديث)( )
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود الترمذي وابن ماجه والدارمي( ) , في كتبهم : أن رجلاً قدم من المدينة على أبي الدرداء – وهو بدمشق – فقال : ما أقدمك يا أخي ؟
قال : حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله غليه وسلم .
قال : أما جئت لحاجة ؟
قال : لا .
قال : أما قدمت لتجارة ؟
قال : لا .
قال : ما جئت إلا في طلب هذا الحديث .
قال : نعم .
قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله له به طريقاً إلى الجنة , وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب , وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء . وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة بدر على سائر الكواكب , وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم , فمن أخذه أخذ بحظ وافر " ( )
وقال عبد لله بن مسعود : (لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته )( ) .
وهكذا فقد بدأت الرحلة في طلب العلم منذ أيام الصحابة رضوان الله عليهم , فرحل أبو أيوب , وجابر بن عبد الله إلى مصر ( ), وكذلك التابعون وتابعوهم حتى عصرنا الحاضر .
إذن فنحن قوم نؤيد الرحلة في طلب العلم ونحثُ عليها ولعلنا نحن أول الأمم التي جعلت الرحلة في ذلك من مقدمات العلم ومقومات التعلم , ولكننا لا نترك أمر الرحلة سائباً يقوم على الفوضى ويؤدي إلى النتائج السيئة التي تؤدي إليها الفوضى بل نشترط فيها – كما أشرنا – شروطاً :
وأهم هذه الشروط هي :
1- أن نأخذ في رحلتنا ما تحتاج إليه أمتنا ... أن نأخذ العلم التجريبي وتطبيقاته . فالعلم بحقائقه المجردة لا جنسية له ولا لون , والمخترعات لا تلتزم بدين ولا تعبر عن تصور .
2- أن نأخذ ما نأخذ ونحن محافظون على ذاتنا وكياننا وأنفسنا , معتزون بما أكرمنا الله به من الدين , لأن مثل هذا الإعتزاز يسهل علينا معرفة ما نأخذ وما ندع , ومعرفة مصلحتنا وتحديدها , ولنا الأسوة الحسنة في صنيع أجدادنا , عندما اقتبسوا بعض العلوم النافعة التي كانت عند الأقوام الأجنبية الأخرى .
فلقد أقبل أولئك الأجداد في العصر الذهبي للثقافة والتدوين والتبحر العلمي , أقبلوا على الترجمة والابتكار والإبداع , فترجموا كثيراً من الكتب وأبدعوا وابتكروا ... وكان لهم أدب راق يحمل الأصالة العربية في البيان , والوجه الإسلامي إذ جعل وجهته القرآن , وكان لهم طب يتسم بهذه السمة , ورياضيات , وفلسفة , وجغرافيا , وفيزياء , وكيمياء , وكانت هذه العلوم المختلفة مصطبغة بالروح الإسلامية .
3- أن يكون هناك اختيار لمن يذهب , فيختار لهذه المهمة من كان صلب الدين , قوي الإرادة , متقدم السن , محصناً من التأثر .
4- أن يحاط المبعوث هناك بالجو الإسلامي النظيف الذي يذكره إن غفل , ويعينه إن ذكر .
5- أن تكون مناهجنا التعليمية تجعل ممن يذهب لتلك البلاد , واعياً مؤثراً غير متأثر
وسيمر بنا تفصيل لهذه الشروط في ثنايا البحث .
ويقتضينا البحث أن نتساءل عن حكم الإقامة في بلاد الكفار , لأن الابتعاث اليوم – مع الأسف –إنما هو في الأعم الأغلب إلى بلاد الكفار .

***

الإقامة في بلاد الكفار :
قرأت بحثاً قيماً كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الموضوع , وقد قال فيما قال رحمه الله :
(الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله ورسوله وأفعل للحسنات والخير – بحيث يكون (المسلم) أعلم بذلك وأقدر عليه , وأنشط له – أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله في طاعة الله ورسوله دون ذلك )( )
وقال كلاماً مضمونه أن الحكم على الإقامة أمر نسبي يتعلق بالشخص والظروف , فمثلا قد تكون إقامة الرجل في أرضٍ يسود بها الضلال ويستعلن فيها الكفر , أفضل إذا كان هذا الرجل مجاهداً في سبيل الله , أو داعياً إلى دينه القويم بلسانه وقلمه , وقد تكون إقامته هناك أحسن من إقامته في أرض الإيمان والطاعة .
ومن هنا كانت المرابطة في الثغور على حدود الكفار أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة باتفاق العلماء .قال تعالى وهو أصدق القائلين – {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }التوبة:19| 21.
إذن فالجهاد مع الإيمان أعظم درجة عند الله , من عمارة المسجد الحرام , وسقاية الحجاج , وبركة البيت الحرام وفضل العبادة فيه أمر مسلّمٌ معروف بيِّن لا جدال فيه .
فأفضلية مقام المسلم في دار الكفر مجاهداً في سبيل الله – في تصوري – عائداً إلى أمرين 1- أحوال الشخص , وإمكانياته , ومواهبه , وطاقاته , وأوضاعه الخاصة به .
2- الظروف العامة التي تسود بقعة ما من بقاع الدنيا .
فإذا كان إنسان من الناس متَّزن الشخصية قوياً , مسموع الكلمة موهوباً , يمتلك أداه من أدوات التأثير في الناس عملية كانت أو فكرية , كالكتابة والخطابة وإنشاء المدارس وفتح المستشفيات وما إلى ذلك , مما تقتضيه مصلحة الإسلام في ذلك البلد , وكان يستطيع أن يؤدي رسالته على وجه حسن , وكان يحتمل ما يصيبه من الأذى المتوقع , فلا شك في أن إقامته حيث يقوى على الدعوة , خير له من الحياة في الوسط الطيب الصالح . أما إذا كان هذا الإنسان شخصاً عادياً , يتأثر بالوسط الذي يحيا فيه , وليس لديه شيء من المواهب والطاقات , وكان تعرضه للأذى والفتنة أمراً محققاً , فلا شك في أن مثل هذا يجب عليه أن يختار البيئة الصالحة الفاضلة وأن يقيم فيها , فذلك أروح قلباً وأسلم عاقبة .


وأود أن أقرر أيضاً :
إن وجود المرء مدة طويلة في مجتمع كافر منحرف , وتعايشه معه يجعله يتأثر بأعراف هذا المجتمع وقيمه شاء أم أبى ... ولا يمكن أن يشذ عن هذه السنة فرد , وإن كان التأثر يختلف قوة وضعفاً , سلباً وإيجاباً ... ولكنه موجود على أية حال . ونسبة الذين يسلمون من هذا التأثير نسبة قليلة , وهذا ما جعل الإقامة في بلاد الكفار , أمراً مقيتاً لا تستريح النفس إليه , ومحظوراً إن لم يكن له داعٍ , ولم تتوافر في المسلم المقيم الشروط الذي ذكرناها آنفاً .
ولقد دعت الآية الكريمة أولئك الذين يلتصقون بالأرض , ولا يهاجرون من ديار الكفر ظالمي أنفسهم[ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ] النساء: 97|99.
والله تبارك وتعالى يفتح الآفاق أمام عباده ليختاروا الأرض التي يستطيعون فيها إقامة حكم الله . قال تعالى : {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } العنكبوت56
وقال : {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ }النساء: 100
ولكن هل الابتعاث في أوضاعنا القائمة هو من هذا القبيل ؟
avatar
مسافر
عضو كابتن
عضو كابتن

عدد الرسائل : 227
تاريخ التسجيل : 29/05/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الابتعاث ومخاطره Empty رد: الابتعاث ومخاطره

مُساهمة  مسافر السبت 02 أغسطس 2008, 7:49 pm

لماذا الابتعاث وماذا يدرس المبتعثون ؟

إن الابتعاث إلى الغرب (رأسمالية وشيوعية) أمر درجنا عليه , منذ أن بدأ الاحتكاك بأوروبا في مطلع القرن الثالث عشر الهجري (أي مطلع القرن التاسع عشر الميلادي)كما سنبين ذلك في فصل خاص بتاريخ الابتعاث .
وكان أمراً له مسوغاته دون شك , فلقد ذهب أنصار الابتعاث إلى القول : بأنه لا بد منه , حتى نستطيع أن نواكب عصرنا ونشارك أهله العيش في قضاياه . وقال هؤلاء الأنصار المتحمسون :
إننا في ذهابنا إلى ديارهم نسترد ديناً سلف منا , فلقد كنا في يوم مضى أساتذة الدنيا , عنَّا يتلقى العلم كل راغب فيه , ومنهم أجداد هؤلاء الغربيين , ومن كُتُبِنا كانوا يستمدون المعرفة , حتى أضحت مصادرهم الوحيدة , وكان مثقفوهم ومفكروهم يتخرجون في جامعاتنا , قالوا : فنحن نسترد ما سلف منا إليهم , عندما نتتلمذ على أيديهم ونستمد من كتبهم المعرفة ، وهكذا الأيام يوم لك ويوم عليك , وتلك الأيام نداولها بين الناس .
وإن صح كثير مما قاله هؤلاء الأنصار , فإن هناك شيئاً لا بد من إضافته إلى كلامهم وهو :
إن الرحلة في طلب العلم وسيلة , ولكنها ليست الوسيلة الوحيدة , لاسيما بعد أن مضى على اتصالنا بحضارتهم وعلومهم الزمن الطويل . وحتى لو تعينت الر حلة وسيلة وحيدة , فقد كان يمكن أن تنضبط ويقضى على محذوراتها .
وسيتضح لنا من دراسة تاريخ الابتعاث وواقع المبتعثين هناك , مدى التفريط والمجازفة بنفر من أبنائنا , وستنكشف بعض الأسرار المهمة في هذا الموضوع .
ونودُّ أن نفرق بين نوعين من العلوم والمعارف :
أما أولهما فلا بد من أخذه وإتقانه بالرحلة أو غيرها , وكلما تفادينا الرحلة ضمنا واقعاً أفضل , خلافاً لما يدعيه الذين يتحمسون للابتعاث , وهذا النوع من المعارف هو ما يتصل بالعلوم البحتة والتطبيقية : كالرياضيات , والكيمياء , والفيزياء , والهندسة , والطب , وما إلى ذلك . إنها علوم تصلنا بأسباب الحضارة والتقدم , بل إن الإسلام ليجعل تحصيل هذا النوع وإجادته , فرض كفاية على المسلمين , إن لم يقوموا به أثموا( ) ولو نظرنا في واقعنا الحاضر لوجدنا أن من أسباب ضراوة الغزو الفكري وشراسته علينا ما قوبلت به حضارة أوربا في بادئ الأمر من سلبية من قبل أكثر أهل العلم والتوجيه في ديار المسلمين , ذلك لأنه إن لم يكن الاقتباس من هذه الحضارة يتم عن إرادة واختيار وبصيرة فإن هذه الحضارة تزحف علينا وعلى معتقداتنا وأخلاقنا لتزلزلها وتغتالها ... أجل إنها تزحف بقضها وقضيضها , وخيرها وشرها ، وصالحها وفاسدها ومثلنا عندئذ مثل قوم جياع أمامهم مائدة حافلة بصحاف مختلفة من الطعام , بعضها في السم القاتل وبعضها طيب جيد , وبعضها حلو , وبعضها حامض .... وقد زينت أتم زينة , ورتبت أفضل ترتيب .
فإن اختار العارفون الطيب النافع لهؤلاء الجياع المحتاجين , تجنبوا السُّم والأذى واستجابوا شاكرين .
وإلا فإن هؤلاء الجياع لا يستطيعون أن يصبروا على الجوع طويلاً لمجرد التحذير والخطر وسيقبلون على هاتيك المائدة المحظورة ثائرين متمردين , يأكلون طعامها النافع والضار . وإذن العلوم التجريبية والتطبيقية هي النوع الذي لا بد من أخذه .

وأما النوع الثاني من المعارف والعلوم فهو قسمان :
1- قسم يتضمن العلوم الإسلامية وعلوم اللغة العربية وآدابها , فليس هناك فائدة ترجى من أخذه عن الغرب , والضرر ظاهر في الابتعاث من أجله , ولا يمكن لأمة تملك الغيرة على ذاتها وكيانها ومثلها العليا , أن ترضى بمثل هذا الوضع الزري .
أليس أمراً مخجلاً أن يذهب رجل من المسلمين إلى اليهود والنصارى , فيتعلم منهم أمور دينه , أو يذهب إلى الأعاجم فيتعلم لغته !!؟؟
وما ثقتنا بعلم رجل تلقى علومه على اليهود والنصارى الموتورين الحاقدين على دين الإسلام وأهله ؟
وما تقديرنا لمن يتخرج في اللغة والأدب على أيدي الأعاجم المستشرقين الذين لا يبينون ولا يتذوقون ؟
إن دراسة هذه العلوم يجب أن تمنع في ديار الكفار , ويجب أن تتم في بلاد المسلمين , وهذا أمر واضح .
2- وقسم يتضمن دراسة الفنون من رقص , ومسرح , وسينما , ونحت , وموسيقى , وما إلى ذلك .
فدراسة مثل هذه الأمور , ومحظور في أي مكان في بلادنا أو في بلاد أعدائنا , ودراستها هناك أشدُّ خطراً .
ويمكن أن يلحق بهذا كل دراسة تنتهي بالدارس إلى الشك والزيغ .
ومما يدل على انحراف الابتعاث وارتباطه بغايات هدامة , أن معظم الابتعاث , إنما كان في العلوم النظرية والآداب واللغات وما إلى ذلك , ولم يكن هناك عدد كاف من المبتعثين لدراسة العلوم التجريبية .
ويذكر الدكتور محمد محمد حسين أمر البعثات فيقول : (وأصبح أكثرها يُوجّه توجيهاً أدبياً أو فلسفياً تربوياً بعد أن صارت المجالات الصناعية والخبرات الفنية وقفاً على المستعمرين الأوربيين الذين حولوا المستعمرات وأهلها إلى مزارع ومناجم وعمال لإنتاج المواد الأولية )( ) .
والذي كانت تتطلبه بلاد المسلمين هو العكس من ذلك , فتأخر المسلمين إنما نشأ عن أمور من أهمها إهمالهم للعلوم التجريبية والتطبيقية , وبعدهم عن مجالات الإنتاج والتصنيع الاقتصادي والعسكري .
والابتعاث لدراسة العلوم الدينية واللغوية يتصل لدى التأمل بعمل المستشرقين . فما هو هذا العمل ؟

المستشرقون والدراسات الدينية واللغوية :
إن أي دراسة دينية أو لغوية في ديار الغرب , ترتبط ارتباطاً حتمياً بالمستشرقين , وموضوع الاستشراق جدير بأن يبحث بشكل موضوعي وفي بحث مفرد , وأن يدرس ماله وما عليه , ولكنني – هنا- أحب أن أقول : إن الذي لا ينقضي منه عجبي أن يبقى هذا الموضوع الخطير وهو من أكثر الأمور تأثيراً في تفكيرنا وثقافتنا في العصر الحاضر أن يبقى حتى الآن دون دراسة وافية من وجهة النظر الإسلامية , ذلك لأن الدراسات التي ظهرت فيه دون المطلوب بمراحل .
والذي نريد أن نشير إليه هو أن المستشرقين بلغوا من المكر والدس والحقد منزلة بعسر تصورها , والخطورة فيها أنهم غير مكشوفين , وأن تأثيرهم على تلامذتهم بطيء , فلا يكاد يشعر هذا المبعوث بالخطر العظيم الذي يواجهه في أستاذه .
إذن الابتعاث كان له أكثر من دافع , بعضها دعت إليه حاجة بلادنا , وبعضها كان عند أعدائنا الذين أرادوا أن يصوغوا قيادات فكرية لا تعطي الإسلام الأهمية الكبرى في الحياة , ثم وجهوا دراسة المبعوثين الوجهة التي تحقق لهم أهدافهم ولا تنتهي بنا إلى التطور التقني (التكنولوجي) المطلوب .
وكان للابتعاث أكثر من مظهر , وبعضها إيجابي بناء وهو مسايرة الحضارة الإنسانية والاكتساب من علومها , وبعضها سلبي هدام سنتحدث عنه عندما نتحدث عن آثار الابتعاث .

تلك جوانب من بحث (الابتعاث) تقودنا إلى موضوع حال المبتعثين :

واقع المبعوثين :
سأقدم فيما يأتي خلاصة ما توصلت إليه من دراسة واقعية (ميدانية) قمت بها مع عدد من المبتعثين الذين أقاموا في جهات مختلفة من ديار الغرب , وفي أوقات مختلفة , ونريد من وراء هذه الدراسة أن ننصف هؤلاء الشباب الذين هم فلذات أكبادنا ، وهم في معظم الأحيان الصفوة المنتقاة من شباب الإسلام . لقد تبين لي أن شبابنا المبتعثين يواجهون في الواقع مشكلات كثيرة جداً لا يتسع الوقت لعرضها كلها , أما أهم المشكلات التي يواجهونها فهي ما يلي :
1- الصعوبات التي يتعرض لها الطالب قبل سفره من ناحية الاتصال بالجامعات , وغالباً ما يترك أمر الاتصال بالجامعة للطالب ولجهوده الشخصية , ولذا تراه مستعداً للالتحاق بأية جامعة تقبله , وأسوأ الجامعات مستوى هي عادة أسرعها رداً على طلبات الطلاب وقبولهم
ويمكن تلافي هذه الصعوبات بأن تقوم الجهات الرسمية والجمعيات الإسلامية باختيار المكان الأصلح ومساعدة الطالب على القبول ليضمن المستوى الجيد والدراسة المثلى .
2- الصعوبات التي يلقاها المبعوث من ناحية السكنى ... إنه غريب لا يتكلم لغة البلد الذي يقصده بطلاقة ، والغريب _عادة_ لا يستطيع الحركة لعدم معرفته وكثيراً ما تعمد جهات تبشيرية أو استعمارية لتلقي الوافدين , لتفسد دينهم وأخلاقهم وتستخدمهم بالتالي في مآربها وغاياتها . وتعالج هذه الصعوبات بأن يقوم الصالحون الموجودون من قبل في تلك البلاد – ولاسيما اتحادات الطلاب المسلمين – بتهيئة الوضع المناسب للطالب المبتعث .
3- صعوبة اختيار البحث المناسب وصعوبة موافقة المشرف على الموضوع الذي يرى الدارس حاجة أمته ودينه وبلاده له , ومن ذلك ما جاء في كتاب أستاذنا السباعي رحمه الله "السنة" , قال عن دكتور محمد أمين المصري : "وما كاد يطلع على برامج الدراسة , وخاصة دراسة العلوم الإسلامية فيها حتى هاله ما رآه من تحامل ودس في كتب المستشرقين وخاصة (شاخت) فقرر أن يكون موضوع رسالته نقد كتاب شاخت . تقدم إلى البروفسور أندرسون ليكون مشرفاً على تحضير هذه الرسالة وموافقاً على موضوعها , فأبى عليه هذا المستشرق أن يكون موضوع رسالته نقد كتاب شاخت , وعبثاً حاول أن يوافق على ذلك . فلما يئس من جامعة لندن ذهب إلى جامعة كمبردج وانتسب إليها وتقدم إلى المشرفين على الدراسات الإسلامية فهي برغبته في أن يكون في موضوع رسالته للدكتوراه هو ما ذكرنا , فلم يبدوا رضاهم عن ذلك , وظن أن من الممكن موافقته أخيراً , ولكنهم قالوا له بصريح العبارة : إذا أردت أن تنجح في الدكتوراه فتجنب انتقاد شاخت فإن الجامعة لن تسمح بذلك )( )
4- عدم الإلمام الجيد باللغة الأجنبية , وقد مر ذكر هذه المشكلة الثانية . وكثيراً ما يتعرض الطالب للأخطار المحققة في خلقه ودينه وفكره من أجل التمكن من اللغة الأجنبية , إذ ينصحه بعضهم باتخاذ صديق أو أكثر من أبناء البلد الأجنبي الذي يقصده , وغالباً ما يفضلُ له – مع الأسف الشديد- أن يكون هذا الصديق من الجنس الآخر !! وهناك تكون الطامة التي قد تفسد على الطالب دراسته نفسها , بل دينه وخلقه وكيانه كله . وقد يزينون له أن يسكن مع أسرة من أهل تلك البلاد , وفي ذلك ما فيه .
وعلاج هذه المشكلة يكون في أن يستعد الطالب قبل سفره استعداداً لغوياً مناسباً وذلك بأن يدخل بعض الدورات التي تقويه في اللغة , وكذلك فإن عليه أن يدخل بعض المعاهد الخاصة في البلد الذي يسافر إليه , ويحسن أن يكون ذلك بالاتفاق والتشاور مع بعض الجمعيات والمؤسسات الإسلامية القائمة في بلاد الغرب , والقائمون على هذه الجمعيات لهم تجارب سابقة في هذا المجال , فبإمكان الطالب أن يستفيد من ذلك الاستفادة التي تجنبه كثيراً من المزالق .
5- الوسط السيئ الذي يحل فيه , ذلك أن الصالحين في بلاد المسلمين قليلون , فما بالك هناك من ديار الكفار , وغالباً ما يكون أبناء بلدته الموجودون هناك من نوعية سيئة فكراً وتديناً وخلقاً .
إن بعض الطلاب لا تغريهم بالرحلة إلا سهولة دخولهم في جامعات أوربا ذات المستوى السيئ وصعوبة دخولهم في جامعات بلادهم لاشتراط معدل معين لم يستطيعوا إحرازه . فإذا كان هؤلاء من ذوي السلوك المنحرف ساعدهم هذا الواقع على السقوط الخلقي وسهل لهم أسبابه , ولذلك فأنت ترى عدداً ليس بالقليل من أبناء المسلمين هناك ساقطين منكبين على الملذات والشهوات ولا يكادون يلتفتون إلى دراستهم , إن أمثال هؤلاء الطلاب يضاف إليهم زملاء الطالب من الأجانب يشكلون وسطاً يغريه بالفساد .
وعلاج هذه المشكلة يكون بإعداد الوسط الإسلامي المناسب , واختيار الجامعة الجيدة التي يستطيع أن يجد فيها التجمع الإسلامي المنشود .
6- انقطاع الصلة بين المبعوث وبلده : وهذا يساعد كثيراً على التحول من الولاء لبلده ودينه وأمته إلى ولاء للمجتمع الجديد الذي يضمه , وقد نتج عن هذا الانقطاع تخلي عدد من النابغين عن جنسياتهم والاندماج في المجتمع الجديد لقاء إغراءات مادية كبيرة . إن هؤلاء النابغين يكونون بمنزلة الدم الجديد يزيد في قوة الأعداد ويمد من أجل حضارتهم .
ولو أن الصلة معقودة لما خسرت البلاد طاقات وإمكانيات كثيرة , هذا وقد كنت من سنوات سمعت إحصاء مذهلاً يتحدث عن فرار الطاقات والإمكانات والعقول من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار التي كانوا يدرسون فيها .
وعلاج ذلك أن تقوم الدولة المبتعثة والجمعيات الإسلامية بوصل هؤلاء الشباب ببلدهم , واستقدامهم إليها الحين بعد الحين بدعوتهم وتحمل نفقات سفرهم , وبنقل الأخبار ولاسيما أخبار بلدهم من وجهة النظر الإسلامية , وبتزويدهم بالمجلات الرصينة , والجرائد الجيدة , وبالنشرات الهادفة , وبالاستمرار بمراقبة المبتعث , وبإنشاء نوع من الروابط الصالحة الهادفة بين المبعوثين أنفسهم .
7- صعوبات دراسية في التخصص , وهذه ناحية في غاية الأهمية , وأبرز ما تكون واضحة في المبعوثين الرسميين الذين يوفدون على حساب الدولة التي تحدد تخصصات معينة وترسل المبتعثين لدراستها . ويحدث كثيراً –لأسباب متعددة- أن المبتعث لا يستطيع مواصلة دراسته في التخصص الذي اختير له , ولكنه لا يستطيع تغييره ... حتى إن بعض الدول إذا علمت أن الطالب غيّر تخصصه تقطع عنه المنحة وتطلب عودته .
ويجب مواجهة مثل هذه الأمور أن تُدرس كل حالة على حدة , ويُنظر إليها بعين العدل والإنصاف , فإن ثبت أن الطالب جاد , ولكن لأسباب لا تعود إلى إهماله وانصرافه عن التحصيل تعثر في دراسة هذا التخصص الملائم له . فالواجب إتاحة الفرصة له ليعمل على دراسة التخصص الملائم له , وكان يمكن تدارك ذلك لو أن هناك هيئة إسلامية تمدُّ للطالب يد المساعدة والعون والنصح والإرشاد .
8- وهناك صعوبات أخرى مثل معاناة الصوارف الكثيرة عن الدراسة تعود إلى طبيعة الحياة المنحلة , والشهوات المبذولة , بعد انتقال من جو محافظ إلى جو منحل , ومثل الانشغال ببعض الأمور الأساسية التي لا يستطيع قضاءها إلا على حساب الدراسة , ويصعب استقصاء هذه الصعوبات وتحديدها .
هذا واقع المبتعثين وفيه حقائق من الحاضر وحقائق من الماضي , ولا شك في أن حاضر الابتعاث متأثر بماضيه , كما أن حاضره مؤثر في المستقبل , وللابتعاث ماض وتاريخ , فلننظر في تاريخ الابتعاث .

***************
avatar
مسافر
عضو كابتن
عضو كابتن

عدد الرسائل : 227
تاريخ التسجيل : 29/05/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الابتعاث ومخاطره Empty رد: الابتعاث ومخاطره

مُساهمة  مسافر السبت 02 أغسطس 2008, 7:51 pm

من تاريخ الابتعاث :
إن دراسة تاريخ الابتعاث بأناة وتأمل , والنظر في آثاره على المبعوثين السابقين أمر في غاية الأهمية في موضوعنا هذا . وإنه لخليق أن يلقي نوراً كشافاً يظهر أغراض الابتعاث جلية صريحة . وهو موضوع طويل يصلح أن يكون رسالة دكتوراه تستقل بدراسة هذا التاريخ وتلك الآثار . ولقد قرأت كثيراً مما كتب فيه ولم أستطع قراءة كثير مما تاقت نفسي إلى المضي في الاطلاع عليه . وأنا هنا لا أستطيع التفصيل في هذا الموضوع لأن ذلك يخرج بي عن حدود البحث التي رسمتها له .

أول بعثة :
من الأمور التي تزل فيها أقدام كثير من الباحثين تقرير الأوليات بجزم دون استقصاء , وبناء على هذا فلا أستطيع الجزم بأول مبعوث أو بأول بعثة ذهبت من بلاد المسلمين إلى ديار الكفار لتلقي العلم , ولكننا نستطيع أن نقول : إن أشهر هذه البعثات هي تلك التي كانت أيام محمد علي والي مصر , وفي النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري (أي في مطلع القرن التاسع عشر النصراني) يقول الأستاذ محمد عبد الغني حسن :
( يجمع المؤرخون لعصر محمد علي – مصريين وأجانب- على أن بعثة 1826 هي البعثة الأولى , ويخالفهم في ذلك الأمير عمر طوسون الذي يجعل بعثه نقولا مسابكي وزملائه إلى إيطاليا سنة 1813هي أول بعثة لمحمد علي , ويجعل بعثة عثمان باشا نور الدين وزملائه إلى فرنسا سنة 1818 هي البعثة الثانية , ويجعل بعثة سنة1826 إلى فرنسا ثالثة البعثات المصرية )( ) .
فهذا النص يؤيد ما ذهبنا إليه من صعوبة تحديد البعثة التعليمية الأولى إلى ديار الغرب لأننا رأينا مثل هذا التحديد بالنسبة إلى محمد علي كان موضع اختلاف ... من أجل ذلك نؤثر أن نقول : إن بعثات محمد علي ( ) التي هي أشهر البعثات وأكثرها تأثيراً في حياتنا كانت في مطلع القرن التاسع عشر أو الربع الأول منه .

البعثات إلى فرنسا :
ويستوقف الباحث تساؤل مريب بالنسبة إلى مكان ذهاب البعثات المصرية لماذا كان إلى فرنسا دون غيرها ؟ ونحن نعلم أن فرنسا غزت مصر أيام نابليون ( ) قبل تولي محمد علي بسنوات , وأن خيل الفرنسيين دخلت الأزهر وأن جنودهم جاسوا خلال الديار وأتوا بفظائع مستنكرة ... فكيف تعمد حكومة مصر- بعد أن تخلصت ديارها من الاحتلال الفرنسي- إلى أن ترسل أبناءها إلى فرنسا الغازية ؟ وبلد الغزاة المعتدين الذين ولغوا في دماء الآمنين من السكان , لا يصلح أن يكون محلاً لدراسة أبناء الأمة المظلومة المعتدى عليها , لأن الحقد الذي يغلي في الصدور على الظلمة المجرمين لا يتيح للوافدين مناخاً ملائماً للدراسة , ولأن هذا الوضع العدائي لا يقنع المبعوثين بالأمن هناك .
قد يقول قائل : إن العلاقات السياسية هي التي قضت بهذا وفرضته , ولكن أمراً واضحاً لا بد أن نذكره , وهو إن إفساد الطلبة المبعوثين لم يكن ليتحقق في بلد من البلاد الأوروبية كما كان يمكن أن يتحقق في فرنسا التي خرجت من الثورة الفرنسية وهي تسبح في بحور من الفوضى الخلقية والفكرية والاجتماعية ... من أجل ذلك كانت فرنسا محل البعثات .
ومن المفيد أن نذكر أول وزير لوزارة المعارف المصرية هو أحد أفراد بعثة 1826 وهو مصطفى مختار المولود سنة 1802 والمتوفى سنة 1839 وقد عاد إلى بلاده سنة 1832 أي رحل إلى فرنسا وهو ابن أربع وعشرين سنة وأقام هناك ست سنوات , وهي الفترة التي يتم فيها تكوين شخصية المرء وثقافته , وكان في سن هي ذروة التهاب الشباب .
ويبدو أنه كان هناك في فرنسا يستجيب لرغبات من رغبات نفسه , فقد ذكر مترجموه أنه كان لديه ميل إلى الموسيقى ,فأرسلت له ساعة دقاقة تحدث نغماً موسيقياً كما اشتريت له آلتان موسيقيتان ب184 فرنكاً على حساب الدولة أثناء إقامته هناك ( ) وكما يدل هذا الخبر على ميل مصطفى للطرب والموسيقى واشتغاله بهما في فرنسا أثناء طلبة العلم يدل أيضاً على رغبة الدولة في ذاك العهد المبكر المتقدم من اتصالنا بالحضارة على مسايرة الشباب في رغباتهم , ومسارعتها لتحقيق ما يريدون من وسائل اللهو والعبث فلو أن دولة إسلامية قامت الآن بإرسال مثل ذلك إلى بعض المبتعثين لاستغربنا ذلك منها . والموسيقى الآن وموقف الناس منها يختلف عن موقفهم منها قبل مائة وخمس وسبعين سنة , قطعنا خلالها أشواطاً من التطور قد تعادل ما قطعناه خلال ألف ومائتين من السنين قبل ذلك .
ولم يلتزم المبتعثون الحدود التي أرادها مرسلوهم , وعندما حاول بعضهم أن يتشدد في إلزام المبعوثين بعدم مجاوزة المهمات الأصلية باءت محاولتهم بالإخفاق( ) .

يقول الدكتور محمد محمد حسين :
( وكان هؤلاء المبعوثين الذين أرسل أكثرهم إلى فرنسا يقرؤون الكتب الفرنسية ويشاهدون الحياة الفرنسية في أحفل العصور بالصراع الفكري الذي يصحب الثورات وكانت فرنسا تعيش في أعقاب الثورة الفرنسية وما صاحبها وتلاها من قلق فكري وروحي لم يبلغ نهاية مداه , وقد احتل هؤلاء المبعوثين من بعد مكان الصدارة والقيادة في مختلف الميادين )( )
ولو أن الأمر وقف عند حد احتلال هؤلاء مناصب الوزارة والقيادة لهان الأمر شيئاً ما ولكن الأمر كان أعظم رُزءاً وأجل كارثة , فقد كان المجلس الذي أشرف على التعليم أيام محمد علي من الأجانب والأرمن ومن المصريين الذين أتموا دراستهم في الخارج .
وقد ذكر الأستاذ محمد عبد الغني حسن من أسماء أعضاء المجلس الأسماء الآتية : ( كلوت بك – كياني بك – وأرتين أفندي – واسطفان أفندي - ورفاعة الطهطاوي – وبيومي أفندي – وفارين- وحكاكيان- ولامبر- وهامون- ودوزول )
إن , هذا الخبر التاريخي المثير ليكشف لنا عن خبئ كان يتوارى خلف الابتعاث , ولو أننا درسنا حياة رفاعة ومؤلفاته لتبين لنا – مع الأسف الشديد – أن أعداءنا قد وصلوا إلى كثير مما يريدون . فالرجل كان معجباً غاية الإعجاب بحياة القوم , ورجع يمجد لأول مرة الفراعنة الكفار , ويذكرهم كما يذكر الرجل أبطاله وصانعي مجده , مع أن المسلمين في أقطار الدنيا كافة كانوا ولا يزالون يسمون عهد ما قبل الإسلام بالجاهلية . وإذا كان هذا حال الرجل الأزهري المعمم الذي أوفد ليكون إماماً للطلبة ومرشداً لهم . فما بالك بالآخرين الذين كانوا معه ؟؟؟؟ .
ونستطيع – كما يقول الدكتور صديقنا محمد محمد حسين – أن نجد فيما كتبه رفاعة صدى لتفكير القرن الثامن عشر في أوروبا وفي فرنسا الثائرة بوجه خاص ... أن نجد آراء تظهر للمرة الأولى في المجتمع الإسلامي .
* للمرة الأولى في البيئة الإسلامية نجد كلاماً عن الوطن والوطنية وحب الوطن بالمعنى القومي الحديث في أوربا الذي يقوم على التعصب لمساحة محدودة من الأرض يراد اتخاذها وحدة وجودية يرتبط تاريخها القديم بتاريخها المعاصر ليكونا وحدة متكاملة ذات شخصية مستقلة تميزها عن غيرها من بلاد المسلمين وغير المسلمين .
* وللمرة الأولى نجد اهتماماً بالتاريخ القديم يوجه لتدعيم هذا المفهوم الوطني الجديد .
* ولأول مرة تنقل إلى المسلمين النظريات الثورية .
* ولأول مرة نرى عرضاً للنظم الاقتصادية الغربية التي تقوم على المصارف والشركات .
*ولأول مرة نرى كلاماً عن المرأة ليس من شك في أنه من وحي الحياة الاجتماعية الأوروبية مثل إنكار تعدد الزوجات , والمطالبة بتحديد الطلاق والمطالبة باختلاط الجنسين .
***
ويبدو أن الحدة في الابتعاث كادت تهدأ , وذلك عندما قامت حركة نشيطة في نقل العلوم التجريبية والتطبيقية إلى اللغة العربية غير أن أقوى آثمة خائنة أوقفت هذه الحركة ودعت إلى الابتعاث .
يقول الأستاذ محمود محمد شاكر : (... فإن كثيراً من الكتب قد ترجم يومئذ إلى العربية في أنواع العلوم كالطب والهندسة والرياضيات والعلوم الحربية , وطبع أيضاً بمصر طباعة جديدة , ولكن يظهر أن القناصل خوفوا هذا الطاغية الجريء عقى تيسير العلوم لطلابها من أبناء مصر , ينشرها بلسانهم , وزينوا له أن يقتصر على البعثات التي تدرس في الخارج )( )

آثار الابتعاث ونتائجه

لاشك في أن للابتعاث وجهاً إيجابياً , غير أننا ههنا نودُّ أن نذكر آثاره السلبية ونتائجه الوخيمة لنحذر وننذر أقوامنا من مغبة التساهل في هذا الأمر .
ونقرر في الوقت ذاته أن أثمن ما لدى القوم هو ذاك المنهج التجريبي الذي أورثهم هذه الحضارة العظيمة والمهارات اليدوية والفنية . وما المنهج التجريبي في ذاته إلا هدية الحضارة الإسلامية إلى العالم ... يجب أن يتذكر أبناؤنا أن أسلافهم المسلمين هم الذين استخدموا هذا المنهج وعلموه الناس , وأن الحضارة الإسلامية انتقلت إلى أوروبا عن طريق ثلاث :
1- اتصال الأوروبيين بالمسلمين في الأندلس وصقلية .
2- التجارة .
3- الحروب الصليبية .
ونود أن نورد فيما يلي أهم آثار الابتعاث من الناحية السلبية : إن من آثار الابتعاث والاستسلام له والمبالغة فيه تأكيد العبودية للغرب التي أرادوها في بادئ الأمر , وتحققت لهم في نفر من المبعوثين . إن اله عز وجل حرم علينا مطلقاً التبعية للكفار , وحظر علينا أن نكون ذيولاًَ لغيرنا , والاستسلام لفكرة الابتعاث والمضي فيها إلى أبعد مدى يؤثر مثل هذا التأثير الهدام , ومن أجل ذلك وجب علينا أن نحول دون وقوع هذه الكارثة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا . قال تعالى [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ] آل عمران 110 . وقال : [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ] البقرة 143 . وأمرنا عز وجل أن ندعوه في صلاتنا مرات ومرات أن يهدينا صراطاً متميزاً بأنه صراط الذين أنعم عليهم غير صراط اليهود وغير صراط النصارى ( ).
فلا بد من أن يكون الابتعاث بشروطه إجراء مؤقتاً , لاسيما وقد مضى علينا أكثر من قرن ونصف ونحن على اتصال بالحضارة الغربية وأصولها , وقد كان هذا كافياً لو كانت الخطة محكمة . ويجب أن تكون سياسة الابتعاث في نطاق ضيق وأن يستعاض عن ذلك بالزيارات العلمية ذات الهدف المحدد .
avatar
مسافر
عضو كابتن
عضو كابتن

عدد الرسائل : 227
تاريخ التسجيل : 29/05/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الابتعاث ومخاطره Empty رد: الابتعاث ومخاطره

مُساهمة  مسافر السبت 02 أغسطس 2008, 7:51 pm

إن صفوة الأذكياء وخيرة الشباب من أبناء المسلمين يدرسون الثقافة العصرية في أوربا وأمريكا ويخوضون خلال ذلك في لجة الحضارة الغربية ويعيشون الانطلاق الأخلاقي والتحلل السلوكي , والنظرة المادية المسرفة والاتجاهات الإلحادية والسياسية من قومية واشتراكية وليبرالية فيرجع معظم دعاة متحمسين إلى تقليد الحضارة الغربية ونشر قيمها ومفاهيمها وتصوراتها .
بل رجع كثير منهم مشبعين بروح الغرب , يتنفسون برئة الغرب , ويفكرون بعقل الغرب ويرددون في بلادهم صدى أساتذتهم المستشرقين وينشرون أفكارهم ونظرياتهم بإيمان عميق وحماسة زائدة ولباقة وبلاغة وبيان , ومن هنا يكون خطر هؤلاء أعظم من خطر أساتذتهم .
والخطورة البالغة تكمن – كما سبق أن أشرنا – في أن يتسلم هؤلاء المبتعثون بعد عودتهم مسئوليات التوجيه والتربية والإعلام ...
إنهم عندئذ يسلخون أمتهم عن دينها وقوميتها , ويقومون بعملية مسخ لواقعها وقيمها ومثلها .
وإننا لنشاهد دائماً أن الإنسان يتأثر بالبلد الذي يدرس فيه ويحاول دائماً وأبداً أن ينقل ما رآه أثناء الدراسة إلى بلده , مع تفاوت بين هؤلاء الدارسين . تقول الكاتبة المسلمة الأمريكية مريم جميل في كتابها " الإسلام في مواجهة الغرب " :
( إن الحضارة الغربية بقوتها الاقتصادية والسياسية القائمة استطاعت أن تبسط نفوذها على العالم كله , ولما استطاعت الشعوب الآسيوية والأفريقية أخيراً أن تنصر في صراعها للحرية السياسية وتحررت من النير الأجنبي كانت حضارتها قد تحطمت قديماً إن قادة هذه الشعوب من غير استثناء تلقوا ثقافتهم في معاهد أوربا وأمريكا , وكانت هذه المعاهد وأساتذتها قد علموهم أن ينظروا إلى تراثهم الثقافي القومي بنظر الاحتقار والازدراء , وكانوا قد خضعوا عقلياً لفلسفات الحضارة المادية .
وهكذا فإن قادة آسيا وأفريقيا متفقون مع القادة الأوربيين والأمريكيين على أن الهدف الأسمى والمثل الأعلى للمجتمع البشري هو تقدمه عن طريق الصناعات الثقيلة ورفع مستوى الحياة المادية وتوسيع القوة الاقتصادية والسياسية ) ( ).
والمثال القوي على ذلك الدكتور طه حسين , الذي رجع إلى مصر فآلت إليه قيادة فكرية للمجتمع , بسبب قيامه بالتدريس في الجامعة وتولية الوزارة , فقد كان عميد كلية الآداب بالقاهرة ومديراً عاماً للثقافة بوزارة المعارف ومستشاراً فنياً فيها وكان مديراً لجامعة الإسكندرية ثم وزيراً للمعارف ( ) وبسبب الكتب الكثيرة التي ألفها وأذاعها بين الناس , ومما ضاعف خطره أسلوبه , ذاك الأسلوب الرائع المبين السهل البليغ , فقد نادى في كتابه " مستقبل الثقافة في مصر " بالأمور الآتية :
1- الدعوة إلى حمل مصر على الحضارة الغربية وطبعها بها وقطع ما يربطها بقديمها وبإسلافها .
فهو يقول :
( إن سبيل النهضة واضحة بينه مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء , وهي أن نسير سيرة الأوروبيين , ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً , ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها , حلوها ومرها , وما يحب منها وما يكره , وما يحمد منها وما يعاب )( ) .
يدعي في هذا الكتاب بأن صلة مصر إنما هي بأوربا لا بالشرق يقول :
( إن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط , وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط ) .
وينعى على المصريين أن يروا أنفسهم شرقيين فيقول :
( فأما المصريون أنفسهم فيرون أنهم شرقيون , وهم لا يفهمون من الشرق معناه الجغرافي وحده , بل معناه العقلي والثقافي , فهم يرون أنفسهم أقرب إلى الهندي والصيني والياباني منهم إلى اليوناني والإيطالي والفرنسي , وقد استطعت أن أفهم كثيراً من الغلط وأن أفسر كثيراً من الوهم ولكني لم أستطع قط – ولن أستطيع في يوم من الأيام – أن أفهم هذا الخطأ الشنيع أو أسيغ هذا الوهم الغريب ) .
2- وكذلك دعا الدكتور طه حسين إلى إقامة شؤون الحكم على أساس مدني لا دخل فيه للدين , أي دعا إلى قيام حكومة لا دينية , يقول في كتابه المذكور : ( وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية ولا قواماً لتكوين الدول ) .
ويدعي : ( أن المسلمين قد أقاموا سياستهم على المنافع العملية , وعدلوا عن إقامتها على الوحدة الدينية واللغوية والجنسية أيضاً قبل أن ينقضي القرن الثاني للهجرة حين كانت الدولة الأموية في الأندلس تخاصم الدولة العباسية في العراق ) .
3- وكذلك دعا طه حسين إلى إخضاع اللغة العربية لسنة التطور ويقترح أن تكون الفصحى التي نزل بها القرآن لغة دينية فحسب كالسريانية والقبطية واللاتينية واليونانية , عند أرباب النحل .
يقول : ( وفي الأرض أمم متدينة كما يقولون , وليست أقل من إيثاراً لدينها ولا احتفاظاً به ولا حرصاً عليه , ولكنها تقبل من غير مشقة ولا جهد أن تكون لها لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها وتصطنعها لتأدية أغراضها , ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخاصة التي تقرأ بها كتبها المقدسة وتؤدي فيها صلاتها . فاللاتينية مثلاً هي اللغة الدينية لفريق من النصارى , واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر , والقبطية هي اللغة الدينية لفريق ثالث , والسريانية هي اللغة الدينية لفريق رابع ) .
وهذا شيء خطير حقاً , وإن كان يخفى ضرره على كثير من الناس .
ويقول الدكتور محمد محمد حسين تعليقاً على هذا النص وكشفاً عن خبيئة :
( ومن هذا نرى أن المؤلف لا يرى بأساً من أن تتطور لغة الكتابة والأدب في العربية حتى يصبح الفرق بينها وبين عربية القرآن الكريم مثل الفرق بين الفرنسية واللاتينية) ( ) ومثال آخر يصلح أن يكون برهاناً على ما يترك الابتعاث من تبعية للغرب في نفس بعض المبتعثين , وهو ما ذكره أستاذنا الدكتور الشيخ مصطفى السباعي عن تجربته مع واحد من هؤلاء التابعين , فقال :
( لما كنا طلاباً في نفس تخصص المادة في الفقه والأصول وتاريخ التشريع في كلية الشريعة وكان ذلك عام 1939 عينت مشيخة الأزهر في عهد الشيخ المراغي رحمه الله , الدكتور علي حسين عبد القادر أستاذاً لنا يدرس تاريخ التشريع الإسلامي , وكان قد أنهى دراسته في ألمانيا حديثاً , وهو مجاز من كلية أصول الدين ومكث في ألمانيا أربع سنوات حتى أخذ شهادة الدكتوراه ...
وكان أول درس تلقيناه عنه أن بدأه بمثل هذا الكلام :
( إني سأدرس لكم تاريخ التشريع الإسلامي , ولكن على طريقة علمية لا عهد للأزهر بها , وإني أعترف لكم بأني تعلمت في الأزهر قرابة أربعة عشر عاماً فلم أفهم الإسلام , ولكنني فهمت الإسلام حين دراستي في ألمانيا ) .
فعجبتا _نحن الطلاب _ من مثل هذا القول , وقلنا فيما بيننا : لنسمع إلى أستاذنا لعله حقاً قد علم شيئاً جديراً بأن نعلمه عن الإسلام مما لا عهد للأزهر به . وابتدأ درسه عن تاريخ السنة النبوية ترجمة حرفية عن كتاب ضخم بين يديه , علمن فيما بعد أنه كتاب جولد تسهير " دراسات إسلامية " وكان أستاذنا ينقل عباراته ويتبناها على أنها حقيقة علمية , واستمر في دروسه , نناقشه فيما يبدو لنا – نحن الطلاب – أنه غير صحيح ، فكان يأبى أن يخالف جولد تسهير بشيء مما ورد في هذا الكتاب)( ) .
• ومن أخطر الآثار أن يعود المبعوث يحقق أغراض أعداء الأمة , فمن المعلوم _ كما أشرنا _ أن حاجة المسلمين إلى العلوم التطبيقية حاجة ماسة , ومع ذلك فإن السيد أحمد خان (المولود 1232 _ 1817 والمتوفي سنة 1315 _ 1898) – وهو نموذج من المبتعثين _ كان يعارض في إنشاء دراسات علمية تجريبية في الجامعة التي أنشأها في الهند , وهو من الذين قضوا حقبة في بلاد الانكليز , وهو كما يقول الأستاذ الندوي : ( أول مسلم هندي سافر إلى الجزائر البريطانية في هذا العهد المبكر )( ) وقد عاد وهو من أشد الناس حماسة للدعوة للأخذ بالحضارة الغربية خيرها وشرها .
قال من مقال نشره في " مجلة عليكرة " في تاريخ 19 فبراير سنة 1898 :
( إن الهند نظراً إلى حالتها الراهنة ليست في حاجة إلى تعليم الصنائع , إن الأهم المقدم هو الثقافة الفكرية من المستوى الأعلى ) ( )
وقد عارض أن يكون مشروع تعليم العلوم الصناعية على حساب تعليم الآداب الإنجليزية والدراسات الأدبية .
• ومن أخطر الآثار الانحراف العقيدي والانهيار الخلقي , اللذان يصاب بهما كثير من أبناء الطلبة , ذلك لأن عوامل الإفساد والإغراء , والتشكيك والإغواء التي يتعرضون لها قد تتغلب على عناصر المقاومة التي تكون لدى بعضهم , فالانطلاق من جو مجتمع مغلق إلى جو مجتمع مفتوح يحدث هزة عنيفة لا يمكن أن تتجاهل .
وهناك سببان رئيسيان للانحراف هما : الناحية الفكرية والناحية الخلقية :
فالطالب الناشئ يذهب إلى مجتمع يقوم نظام الحياة فيه على أساس تنحية الدين جانباً والتحلل من قيوده , ويرى في هذا المجتمع ما يبهره من مظاهر التقدم والنظام , فيكون ف حالة نفسية تؤهله لقبول الشبهات , وتُلقى إليها الشكوك بشكل مدروس منظم , ويكون هناك وحيداً يعيش بعيداً عن جماعة المسلمين , فلا يتاح له أن يؤدي الصلوات في جوها المؤثر , ولا أن يحضر موسم العبادة العظيم في شهر رمضان , مما يسهل على الكائدين إيقاع الانحراف عليه .
وهناك الناحية الخلقية التي قد تكون أشد ظهوراً بالنسبة إلى الطلاب المسلمين في ديار الغرب , إذ ينتقل هذا الشاب من بلاد درج الناس فيها على سلوك معين , وأعراف خاصة , فمن ذلك أن المرأة المحترمة لا تكون إلا أما أو أختاً أو بنتاً أو زوجة أو امرأة أجنبية عفيفة صينة . ويسافر الفتى وهو في ذروة التهاب الغريزة الجنسية .ويذهب إلى مجتمع لا يلتزم ذاك السلوك , ولا يعترف بهاتيك الأعراف , ويلقى المرأة فيه متاحاً مباحاً لمن شاء من الناس , ولا يرى كثير من الناس هناك في ذلك شيئاً كبيراً .
وليس هناك فتنة أضر على الرجال من النساء كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم .
هذان هما السببان الرئيسيان في الانحراف .
• ومن الآثار الخطيرة تخلف المبتعث في لغته الأم , وقد يكون تخلفه هذا سبباً يدعوه إلى أن يقف مسيئة للغته وأمته , فيؤكد _ مثلا _ بقاء تدريس العلوم التجريبية والتطبيقية باللغة الأجنبية , وذلك ليغطي عجزه وليؤدي العمل المطلوب منه بأسهل سبيل وأقل جهد .
• ومن الآثار الخطيرة أن يعود بعض هؤلاء العابثين جهلة فارغين , وهم يحملون شهادات , ولكنهم لم يستطيعوا التفرغ لطلب العلم لأنهم كانوا عنه في شغل ... هذا ، إذا عادوا ... وإن لم يعودوا فالأمر معروفة خسارته .

*********************
ملاحظة لا بد منها :
إن هذا حال معظم الراحلين إلى ديار الغرب من أبناء المسلمين , وليس هذا الحكم كلياً مطرداً ينسحب على كل مبعوث وراحل , بل لقد رأيت في رحلتي الأخيرة إلى أوروبا شباباً يحقر المرء نفسه واجتهاده في العبادة إذا قاس نفسه إليهم , لقد رأيتهم شباباً صالحين يندر وجودهم في هذا العصر صلاحاً وديناً وتقوى وابتعاداً عن المحرمات .
ورأيت هناك زوجات هؤلاء الشباب فتيات مسلمات محافظات على الحجاب وقراءة القرآن وحضور مجالس العلم الديني , وهن يصلحن أن يكنَّ مثالاً وقدوة صالحة للنساء في عصرنا هذا .
ولكن عدد هؤلاء بالنسبة إلى مجموع الطلاب المبتعثين عدد قليل يجعلهم شواذ , والشاذ يؤيد القاعدة ولا يخرقها .
يتلخص لنا من هذا البحث , أن الابتعاث إلى ديار الغرب ظاهرة رافقت تخلف المسلمين وتقدم الكفار , في مجال المادة والعلوم التجريبية , وأن الابتعاث شجعته أيد أثيمة استغلت دوافعه السليمة البناءة , وأصرت أن يستمر حتى بعد مرور ما يزيد على قرن ونصف من الزمان , لأنها رأت آثاره الهدامة الخطيرة التي تفتك بالأمة وكيانها وكرامتها .
وقد ألممنا بنبذة تاريخية سريعة , وعرضنا لبعض النماذج التي انهزمت أمام حضارة الغرب , فعادت معولا يهدم في بناء أمتها ويقوض صرح كرامتها , وقررنا أن آثاره اعتقادية وخلقية وعلمية وسياسية , وضربنا على ذلك بعض الأمثلة , وأشرنا خلال البحث إلى بعض المشكلات وما نراه في حلها .

المقترحات

إزاء هذه المخاطر الجمة نرى ما يلي :
1- لا ابتعاث إلا عند الضرورة , ويمنع الابتعاث في علوم الدين واللغة إلى ديار الكفار , ويقتصر على ما تدعو إليه الضرورة في العلوم التجريبية والتطبيقية .
2- لا ابتعاث إلا بعد الماجستير .
3- انتقاء الطالب المراد ابتعاثه .
4- تعريف الطالب المبتعث بدينه وتسليحه بسلاح العلم , وإظهار عوار الديانات الأخرى , والأنظمة السياسية القائمة على أساس غير الإسلام .
5- تعريف الطالب بالمشكلات التي سيواجهها عند السفر , مثل أنواع الأطعمة والأشربة المحرمة وما إلى ذلك .
6- مساعدة الطلاب في اختيار الجامعات الجيدة .
7- إرسالهم إلى البلاد التي فيهم تنظيمات طلابية إسلامية وتعريفهم بها وربطهم بعناصرها .
8- إلزام الطالب المبتعث بأن يكون متزوجاً , وأن تكون زوجته معه ,

وإذا استطاعت الدول الإسلامية بما آتاها الله من إمكانات مادية , وأن تأتي بالطاقات العلمية إلى بلدها , وتكون الدراسة هنا في بلاد المسلمين , فإن ذلك أفضل وأكمل .

وينبغي أن نقتنع بأن هذا الابتعاث إجراء مؤقت حتى تقوم في دنيا المسلمين دراسات عليا أصلية , ويمكن لنا إذا قامت مثل هذه الدراسات , أن نستعيض بالزيارات العلمية على الدراسة الطويلة , فيطلع الزائرون _ بين حين وآخر _ على ما جدَّ من العلوم والمخترعات .

كلمة أخيرة :

أيها السادة إن مؤتمركم يناقش موضوعاً من أخطر موضوعات الإسلام في هذا العصر , وهو موضوع الدعوة إلى الله , ولقد سبق أعداؤنا إلى مؤتمرات عدة للكيد للإسلام فإن أنتم كنتم على مستوى الحاجة , وخرجتم بتوصيات جادة , تأخذ طريقها إلى التنفيذ , أحسنتم لأنفسكم وأمتكم وإلا فإني أخشى أن يكون ضرر هذا المؤتمر أكبر من نفعه .
فلنتصور عظم هذه المسؤولية التي نتصدى لحملها , ولنعِ حقيقة موقفنا في عصرنا , ولنتذكر أن لنا وقفة بين يدي الله يحاسب كلا منا عن عمله ماذا عمل فيه .
وأسأل الله أن يوفقكم ويسدد خطواتكم على طريق الحق وينفع بكم إنه سبحانه سميع مجيب . والحمد لله رب العالمين .


--------------------
avatar
مسافر
عضو كابتن
عضو كابتن

عدد الرسائل : 227
تاريخ التسجيل : 29/05/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى